أجرى المقابلة: لمى الحاج حسن وباسل عبدالله
في منطقة تجتاحها النزاعات وتستنزفها المُواجهات، ويتفشّى فيها التعصب، وتضرب فيها الطائفيّة آخر مُقوِّمات بناء المواطن والإنسان الحر في المجتمع، نفتح الباب واسعاً في نقاش فكري مع الأب الدكتور ميشال سبع، مُتناولين قضايا الإنسان والعلمانيّة والإيمان والدين والسلطة الدينية، ومحنة المعرفة في بلادنا ومشرقنا.
الدكتور ميشال سبع هو رفيق درب المطران غريغوار حداد. ساهم معه ومع الدكتور جيروم شاهين والفيلسوف بولس الخوري في تأسيس مجلة "آفاق" في سبعينات القرن الماضي. هو أيضاً دكتور في الاجتماع السياسي وباحث في الفكر القومي والميثولوجيا. مارس التعليم الجامعي في الجامعة اللبنانية، وترأس فيها لفترة قسم الصحافة. كان أيضاً رئيس المدرسة البطريركية في بيروت. كتب ميشال سبع في صحف لبنانية وعربية عديدة، منها السفير والنهار، وصدرت له مؤلفات فكريّة عديدة منها "مدخل إلى علمنة الإيمان"، وبحث في "الأقليات والفكر السياسي" مُوزّع على عدة كتب.Top of Form
كان لأسرة تحرير مجلة "تواصل مدني" هذا اللقاء الصريح والعميق مع الدكتور ميشال سبع:
كيف ينظر د. ميشال سبع إلى العلمانية، وأين التداخل برأيه بين العلمانية والإيمان، والعلمانيّة والدين؟
العلمانية ذات وجهين، الوجه الأول، هو العلمنة الإدارية السياسية المدنية، أي بكل مفاهيمها، وتندرج تحتها المواطنة والديمقراطية والزواج المدني إلخ... وهذه تعتبر ضمن الشق القانوني والإداري. والوجه الثاني، الذي سأتكلم فيه، هو العلمنة الفكرية، والعلمنة التي يمكن أن نطلق عليها تسمية "العلمنة الإيمانية"، وفي هذا المجال نستذكر قول المطران غريغوار حداد أننا مع "تحرُّر الإنسان، كل إنسان، وكل الإنسان". وإلى اليوم يتساءل الكثيرون عن القصد بعبارة "كل الإنسان"؟ وقد دارت حوارات عميقة حول هذا الموضوع، فهذه العبارة تحمل مضامين كبيرة جدًا تطال مجتمعنا، فالعلمنة الأولى بدأت في أوروبا مع الثورة الفرنسية في العام 1789، والتي كان أبطالها مونتسكيو Montesquieu وجان جاك روسو Jean-Jacques Rousseau وفيكتور هوجو Victor Hugo وموليار Moliere وفولتير Voltaire... ولن أدخل في تفاصيل هذه العلمنة كونها شائعة جدًا. لكن العلمنة الأخطر في التاريخ كانت العلمنة الألمانية، ورُوّادها فويرباخ Feuerbach وسبينوزا Spinoza وهيغل Hegel وفيخت Fichte ونيتشه Nietzsche... وهذه العلمنة تتكلم عن واجب التحرر من الموروثات الدينية التي تُكَبِّل كل حياتنا والتي تمنعنا من العيش كبشر، وهذا ما يُسمُّونه Aliénation أي الاستلاب، حيث ينشأ الإنسان منذ الصغر على فكرة أن الله يرانا، وأنه يقول لنا مثلاً ألا نكذب، وأننا إن كذبنا فسنعاقب، وهذا ما يؤدي إلى شعور مُتنامي بالخوف، ليس فقط من المعلم في المدرسة مثلاً، إنما أيضاً في حياتنا الخاصة، على السرير مثلاً في غرفة النوم، حيث يُلاحقنا هاجس مُحاسبة الله ومعاقبته لنا. هنا يصبح الطفل مُكبّلاً بمجموعة من التقاليد والمفاهيم والأخلاقيات التي لا علاقة لها إطلاقًا بالإنسان. كيف ذلك؟ كي أوضح الأمر، سأتطرق إلى مقالة نشرتُها في مجلة "آفاق"، تحت عنوان "الأخلاق مخلوق اجتماعي لا ديني"، وقد تسببت لي بمشاكل مع السلطة الكنسية آنذاك، وطالبوا بطردي، وحجَّتهم في نقدي، فكرة أنّه إذا خلى الدين من الأخلاق فما الغاية من وجود الدين؟ وقد أجبت عن تساؤلهم، بسؤال مضاد: هل الأخلاق ثابتة أم مُتغيرة؟ هل الأخلاق التي تعارَفَ عليها الناس منذ مئة سنة هي نفسها أم تغيرت؟ وكانت الإجابة: "لا لم تتغير". كيف لم تتغير؟ سأعطي مثالاً بسيطًا على هذا الأمر: جدتي في شبابها كان عليها العودة إلى منزلها قبل الساعة الرابعة عصرًا أي قبل غروب الشمس. أمّا أمي فكان بوسعها الخروج للسهر مع صديقاتها على أن تعود قبل السابعة مساءً. والحال تبدلت أيضاً بالنسبة لزوجتي، ومن ثم بالنسبة لابنتي اليوم. إذن، مفاهيم الحرية والأخلاق مُتغيرة، وذلك ينطبق حتى على مفهوم اللصوصية اليوم، أليست التجارة اليوم سرقة؟ أليست السياسة سرقة؟ فالعادة الاجتماعية هي العادة الأخلاقية. الأخلاق تتغير مع تغير المكان والزمان. لذا لا يجوز أن نقول الدين أخلاق، وإلا يصبح الدين مُتغيرًا. وإن كان كذلك فالوضع يصبح مختلفًا، ولا نعود قادرين على الاعتماد على القرآن والإنجيل، لأنّ مفاهيم هذين الكتابين، بذلك، تُصبح مُتغيِّرة مع تغير الزمان والمكان.
هنا نعود إلى مفهوم العلمنة الألمانية التي بدأ بها فويرباخ Feuerbach عندما نقض العهد القديم. وبعده الكتاب الشهير للمفكر الإسكوتلندي جيمس جورج فريزر James George Frazer، في كتابه "الغصن الذهبي The Golden Bough" الذي تكلّم فيه عن عادات وتقاليد الشعوب عبر الأزمنة، ويتبيّن منها أنّ "العهد القديم" مبنيّ على الأساطير. وقد استنتج فويرباخ Feuerbach أنّ في الكون: الإنسان والطبيعة، وهما وجهان لحركة واحدة. وكان أرسطو Aristotle قد عبّر عن ذلك بقوله أنّ الطبيعة تتنفس وتنمو ولكن لا تتحرك، أما الحيوان فيتنفّس وينمو ويتحرك، ويدري ولكنّه لا يدري أنّه يدري، أما الإنسان فهو الذي يحكي ويتحرك وينمو، ويدري، ويدري أنّه يدري. اعتبر الفلاسفة الألمان أنّ الإنسان هو محور الكون، وأن الإنسان هو من ابتدع فكرة الله. وقد عبّر بولس الخوري في مجلة "آفاق" عن هذه الرؤية، حين قال إنّ الله هو فكرة وليس شخصًا؛ لأن اعتبار الله شخصًا يعني أنه محدود بالمكان والزمان، بينما إذا ذكر كروح، فإن مخاطبته تُصبح كمخاطبة الأرواح القديمة. وقد أشار سبينوزا Spinoza إلى أنّ الإنسان لا يكتفي بالعقل، لأنّ لديه شيء مهم جداً هو الإحساس، فإحساس الإنسان أقوى من العقل. لذا، وعندما رجعنا إلى العلمنة المؤمنة، قلنا أنّ الإنسان يؤمن بإحساسه لا بعقله. فالإحساس هو الذي يُجسّد الله، الذي هو القوة الكامنة في الإنسان الآخر. وهكذا، حين يحبُّ الإنسان إنسانًا آخر بصدقٍ نابع من داخله، يكون قد اكتشف الله في ذاته من خلال الآخر. ومن هنا تتبلور فكرة الحب، والأمر أشبه بفكرة "المِرآة": حيث إذا نظر الإنسان في المرآة، فلا يكون لكي يرى نفسه فقط، بل ينظر فيها أيضاً لكي يرى كيف يراه الآخرون. فالمرآة هي عيون الآخرين، فعندما تنظر إليها ترى نفسك من خلال عيون الآخرين فتجد حسّ الألوهة فيك. المسيح الذي يرمز إلى الحب، ليس كشخص، بل كرمز للحب، هذا هو الحب الذي هو محور الإيمان، أما خارج ذلك، تصبح الأمور عبارة عن حسابات عقلية، اجتماعية، طبيعية في الكون.
الإنسان مركب من خلايا تضعف وتسقط وتموت، فكما كتب الكاتب الشهير فرانسيس بيكون Francis Bacon، من أن الإنسان مضاف إلى الطبيعة، أي أننا نحن جزء من الطبيعة، وما يصيب الطبيعة يصيبنا كبشر، ولا علاقة لله في ذلك. الله هو الحب الذي ينبض في داخلنا. والعلمنة بالنسبة لنا هي "كل الإنسان" أي أنّ كل فكر ومشاعر الإنسان هي علمانية خاصة به. ويأتي من يقول لنا أنّ هذا إلحاد. كلا، وهو ليس بإلحاد، فالإلحاد هو الذي ينفي الله في حياتك، فما أقوله لك أنّ الله هو الحب، والحب لم يخلقك، الحب موجود فيك. يقول المسيح "ملكوت الله في داخلكم"، فبالنسبة لنا لا مكان مقدسًا، الكنيسة غير مقدّسة، والمذبح ليس مقدّسًا، والصليب والكتاب غير مقدّسين، ما من مُقدّس غير الإنسان. حتى الكاهن عندما يصعد إلى المذبح في الكنيسة، ليست الكنيسة والمذبح هما الذين يقدّسان الكاهن، بل الكاهن الإنسان هو الذي يقدّس المذبح ويقدّس الكنيسة. إذن، العلمانية هي تحرر الإنسان من كل هذه القشريات حتى يصل إلى الينبوع الذي في داخله ليكتشف ذاته. قال سقراط Socrates: "إعرف نفسك". ونحن نقول: إشعر بنفسك واشعر بحبك ترى الألوهة فيك.
ما هي نظرتك لتاريخ المواجهة بين السلطة الدينية والعلمانيين في أوروبا؟ وهل نعيش زمن "العصور الوسطى" اليوم في منطقتنا؟
كان الصّراع بين المؤسسة الدينيّة والمؤسسة المدنيّة موجودًا قبل المسيحيّة بحوالي ألفي وأربعماية سنة. أما المسيح، فهو لم يُقِم أي سلطة ولا مؤسسة. أما ما حطّم المسيحيّة وقلَبها فهو الملك قسطنطين Constantine في القرن الرابع ميلادي، هذا الملك المتوحش الذي كانت أمه متأثرة بالمسيحية والتي أتت إلى أرض فلسطين ونبشت وأخرجت الصليب وأعطته إيّاه، فظنَّ أنه بهذا الصليب سوف ينتصر على الأعداء. وقد قام قسطنطين Constantine بالتأسيس للشعبوية الدينية المسيحية للناس البسطاء، فتصوّر هؤلاء أنّ عليهم القتال من أجل المسيح، وهو الذي غاب قبل أربعماية سنة، فقاتلوا باسم المسيح، وأصبحت المسيحيّة في خبر كان، وما عاد لها علاقة بالمسيحية الحقيقية القديمة، بل تحوّلت إلى سلطة سياسية بكل ما للكلمة من معنى، حيث وضع قسطنطين Constantineالتاج للبابا، وأطلق عليه لقب ملك الملوك. أما اليوم، برأيي، فلا سلطة للكنيسة. في القرون الوسطى كانوا باسم الكنيسة يقومون بالذبح وبحرق العذارى تحت شعار أنهن مدنسات من الشيطان ويبيعون صكوك الغفران في السماء، ولكن هذه الأمور لم تعد موجودة اليوم. عندما سقطت أبواب الباستيل Bastille في فرنسا سقطت معها هذه السلطة.
أما لبنان، فهو لم يكن يومًا دولة، بل كان عبارة عن إمارة لأمير، ثم اعتبره الفرنسيون جزءًا منهم، كما فعل العثمانيون قبلهم، فقسّموه على أجزاء، لكل عائلة حصّة منها. لم يكن لبنان يومًا دولة، ونحن لم نحصل على الاستقلال، بل على حكم ذاتي وإداري. لذلك، فالدول الأجنبية حاولت أن تفرض وجودها من خلال وسيلة واحدة ألا وهي الأديان. لذا، نحن لا نعيش القرون الوسطى ولا سلطة للكنيسة اليوم في لبنان كما أن سلطة الدين لم تعد مسيطرة حتى في الدول التي كانت تعتبر واجهة لدين معين، كالسعودية مثلاً، التي أصبحت منفتحة أكثر من أي وقت مضى، وأصبحنا نرى مظاهر الحريّة الدينية والمعتقدات فيها كما لم نرَ من قبل، ولكن الصحيح هو أن هنالك سلطة سياسية تختبئ وراء السلطة الدينية وتُسَيِّرُها بالاتجاهات التي تريد.
هل الإيمان، برأيك، بالله يمكن أن يُقَرِّب الإنسان من العلمانية؟
كل علماني حرٌّ في تشخيص الله. إذا أردت اليوم أن أعتبر أن الله هو شخص خارق، أو هو الذي خلق الكون من العدم، أو هو رفيقي. أو إذا أردت أن أعتبره رب إبراهيم، هذا لا يعني شيئًا. الإنسان يؤمن بما يشعر به، هذه هي العلمانية. العلمنة لا علاقة لها بما يؤمن به الإنسان. ولتوضيح الفكرة، في القديم، كان الناس يعبدون الأصنام والنار والنبات والشجر. ومثلاً جاء أحد الفراعنة في مصر، وبغية أن يفرض سلطته، أزاح الإله آمون Amun ولبس كنيته، ليفرض نفسه على بقيّة الممالك. فمع وجود إله واحد كرّس استعمار باقي الممالك. إلغاء الآلهة كان سيطرة على بلاد واسعة، وإلغاءً لمعتقدات شعوب لمصلحة فرعون يلبس ثوب الله ويدَّعي أنه الله وأنه يمتلك الحقيقة.
لماذا لا يمكن أن يكون لي إلهي؟ أليس المهم أن أؤمن؟ ما دخلك إن أردت أن أؤمن بإله غير إلهك؟ هذه حريتي. مثلاً، إذا أحببت امرأة، ووجدها شخص آخر بأنها غير جيدة، ما علاقته بذلك؟ أنا أحبها، وأنا حرّ في ذلك، إنه شأني. وما دام الإنسان مُتغيرًا ومُتبدلاً، فهو حر بإيمانه. أنا أقول بأنّ الإنسان حرٌّ بثلاث: بما يُفكّر، بما يأكل، وبما يحب.
ما هي، برأيك، الأسس لبناء دولة علمانية؟
نحن اليوم في مجتمعنا نتربّى على مفهوم ديني خاطئ مليء بالأساطير والعادات والتقاليد، لقد شهدتُ كثيرًا من الخلافات بين أمّهات وآباء خلال تعميد أولادهم وذلك فقط لأسباب سطحيّة، مثل، مَن سيحمل الطفل بعد تعميده! ألا تعتبر تلك سخافة في مكان يُعتبر مقدّسًا بحسب معتقد من دخلوه؟ الأمر مُعقّد في لبنان. نحن اليوم لا نحلم بدولة مدنيّة حالياً، نحن نحلم أن يكون هناك أشخاص مؤمنين بالقضية العلمانية يُقْدمون على تأسيس مدارس مثل مدرسة بطرس البستاني الذي افتتح مدرسة في العام ١٨٦٣، وسمّاها "المدرسة الوطنية". وهو من قال: "الدين لله والوطن للجميع". إن لم يكن لدينا مدارس من هذا النوع لا أمل للبنان.
أتجد المحور الأساسي لبناء دولة علمانية هو التربية المدنية؟
طبعاً، التربية المدنية هي الأساس، يجب أن يوضع تربويون علمانيون، ليُعلّموا الأولاد كيف يرون في أنفسهم قيمهم الإنسانية. لا يقال أنا مسيحي لبناني أو أنا مسلم لبناني، يجب أن نصل إلى كلمة أنا إنسان لبناني. في وقت من الأوقات، كنت مسؤولاً عن ملف الانحراف في لبنان في وزارة الشؤون الاجتماعية ومثلته في جامعة الدول العربية، وقد اكتشفت أنه لدينا مشكلة ألا وهي مشكلة المدرسة والأهل والبيت. لا يكفي أن تُعلّم الولد في المدرسة دون أن يقوم الأهل أيضاً بدورهم في تعليمه على أسس إنسانيّة. بمعنى آخر، إذا لم يُقرر الأهل تغيير أفكارهم وتعليم أولادهم أفكارًا تجعل منهم مواطنين وإنسانيين، فلن ينجح الأمر. لذلك، المسار صعب وطويل.
كان لدي تجربة مع الشيخ ماهر حمود في صيدا، حيث كنت أنزل مع المطران سليم غزال إلى الثانوية وندخل الصف، أنا وحمود، ونقوم بتعليم ديني مشترك مسيحي إسلامي، فيطرح التلاميذ أسئلتهم ونحن نجيب عليها. أنا أقترح أن تستبدل مادة الدين بمادة التربية الوطنية. ولا أقصد هنا مادة التربية الوطنية التي تحكي عن الوطن والأخلاق الوطنية الممزوجة بالمفاهيم الدينية، بل التي تتحدث عن كيفية التعامل مع الآخر، كيف تقبل الآخر، كيف تحترم الآخر، هذا هو الأساس. عندما كنت أُدرِّس في المدرسة البطريركية، كنت أُشغِّل الدبكة في الفرصة الأولى للتلاميذ، وكانت تقام حلقات دبكة في الساحة، شباب وبنات، صغارًا وكبارًا. ولم يكن هناك أي مشكلة. ولكن في آخر سنوات، أصبح هناك تضييق حيث أصبح بعض الشباب يتمنعون عن إمساك أيدي الفتيات. حاولت كسر هذا السلوك لدى مشاركة فتيات فرنسيات من جمعية فرنسية الطلاب بحلقات الدبكة. فخجل الشباب وشاركوا الفتيات في الدبكة. وأذكر جيدًا، أنّه خلال شهر، بين أذار ونيسان، أصبح كل الشباب والفتيات يمسكون أيدي بعضهم خلال الدبكة. لما لا تمسك يد الفتاة؟ هل هي مدنّسة؟ إنها كالملاك. لما تحكم عليها بالتدنيس؟ لا يعقل ذلك.
إذا ما عاد الإنسان لنفسه يكتشف إلهه في داخله، يكتشف حبّه للآخر في داخله. أحبّت ابنتي شابًا في عمر الرابعة عشر، اسمه محمد. أحببتُ هذا الشاب، وكان أعز أصدقائها عليّ. وقد ارتاحت مدى، ابنتي، لأنها كانت تظن حسب قول أصدقائها أنني لن أقبل كوني خوري. ولكن عندما زارته في منزله، قاطعها أهله لأنها مسيحية. لاحقًا تركَته لأنه لم يستطع تخطي قرار عائلته كي يبنيا علاقة زوجيّة سويًا، مع أنني كنت أتمنّى أن يكملا حياتهما معًا. هذه مشكلة كبيرة.
ما هي أبرز النقاط التي يجب أن نعمل عليها للحد من الانقسامات الطائفية؟
ليس هناك انقسام طائفي، هناك انقسام سياسي، لا يوجد طوائف، تكفي كلمة "إلهنا وإلهكم واحد"، يعني ليس هناك من خلاف في العمق، الخلاف دائماً هو في السلطة. ولرجال الدين دورٌ بارز في الحد من ذلك. ولكن بالدرجة الأولى على رجل الدين أن يتحرر ماديًا. أن يكون لديه ما يستند عليه ليؤمِّن لنفسه دخلاً ماليًا.
ما الفرق بين الإيمان والدين؟
الدين مُركّب على مجموعة طقوس وعادات وتقاليد ومفاهيم، أما الإيمان فهو هذا الشعور الداخلي الذي تكلم عنه الفارابي أو الغزالي وقال أنه كـ "نور ينبثق من داخل الصدى". الإيمان هو هذا الشعور الداخلي الذي يرى كل شيء جميلاً، كل شيء محبًا. هذا هو الإيمان الصافي. اليوم، بالنسبة لي، لا يمكن للإنسان أن يكون متدينًا ومؤمنًا في الآن معاً. لأن الدين يبتعد عن الإيمان، يُدخلك في طقوس تضيع بها عن إيمانك الداخلي. أنا غير مُتديّن بهذا المعنى، ولكنني مؤمن للعظم. وهذا الكلام يأتي بعد 45 سنة من ممارسة هذه الطقوس. كنت في المعمودية، عندما أحمل الولد وأضعه بين يديّ والده وأضع عليه الزيت المقدس، أقول "أطرد الشر الكامن في قلبه، أطرد الشيطان". كيف لهذا الطفل الصغير أن يحمل في داخله شيطانًا؟ ليس هناك منطق في ذلك. عند الوفاة، عندما يقولون "الله يرحمه"؟ هل فعل خطيئة؟ لما تحكم عليه دون معرفة؟ لدينا ثلاثة شروط لمفهوم الخطيئة في اللاهوت العقائدي: إرادة كاملة، حرية كاملة، وضرر كبير للآخر. لذا، قاموا في كنائسنا بإلغاء كراسي الاعتراف. لقد كنت خوري في الأشرفية، كان هناك هيكل صغير يعترف الناس بجانبه. أتت إمرأة كبيرة في السن، وسمعتها تبكي، فنزلتُ وأخذتها بيدها وسألتها عن سبب بكائها، كان هناك أناس في الكنيسة يشاهدون ما يحصل، فقالت لي: "إنّ ابني كان مسافرًا إلى الخليج، وأتى لزيارتي فحضّرت له اللحم النيء وقد أكلت منه، وإذ بي أتفاجأ أنه نهار الجمعة، وأنا لا آكل الدهون في هذا النهار، لقد ارتكبت خطيئة!". فمسحتُ دموعها وأخبرتها أن لا بأس بذلك، وطمأنتها أن لا خطيئة عليها وأعطيتها بعض الكلمات لتقولها بعد أن أصرّت على أخذ جزاء. بعد أسبوعين من تلك الحادثة، تكرّر نفس المشهد، ولكن هذه المرة بسبب آخر، أخبرتني أنها قامت بالسّب، قالت "إن شاء الله موت" وأنّ هذا الفعل كان بسبب أولاد إبنها الذين أتعبوها. فأخبرتها أنها امرأة جيدة تضحِّي من أجل أولادها، وأن هذا الفعل ليس بخطيئة. في المرة الثالثة وجدتها تبكي أيضًا في نفس المكان، فما كان مني إلا أن قلت لها من بعيد، إن كنت قد أتيت بفعل عادي وتتهمين نفسك بالخطيئة فلا تأتي إليّ. هي تحكم على نفسها وتعيش عقدة الذنب بسبب مفاهيم وطقوس دينية تربّت عليها. إذن، مجتمعنا يتغير عندما تتغير جذوره.
سوف ننتقل معك إلى سؤال شخصي: نودُّ أن نعرف أكثر لماذا قرّر ميشال سبع أن يكون كاهنًا؟
في صباي، أغرمت باليوغا وبالبوذية. تركت بيت أهلي عندما كنت في الثامنة عشرة من عمري، وذهبت إلى منطقة صحراوية خارج حلب في سوريا. قضيت هناك أربعين يومًا، لا آكل ولا أشرب سوى لبن العنزة. كنت أجلس لأراقب الشمس خاصة عند المغيب. أُغرمت بفلسفة فيتاغور الذي يقول أن النجوم تغنّي. كنت أحلم في ذلك الوقت أن أكون ناسكًا. بعدها، عندما عدت، دخلت الجامعة ودرست الهندسة الزراعية، قسم الأرصاد الجوية. ثمّ التقيتُ بالخوري ريمون أبو جودي الذي أصبح لاحقًا نائبًا للبطريرك صفير في لبنان، فتحدّثنا وزُرته لاحقًا في قرنة شهوان، حيث أعطاني ساعات في الفلسفة العربية في مدرسة "السان جوزيف". وأنا هناك، وبالصدفة، قابلت الأب أثناثيوس الحاج الذي كان مُكلّفًا بمسؤولية بيت شباب للمعاقين، ونمَت علاقة قوية بيننا. ثم أرسلني، وكنت في ذلك الوقت في أول العشرينيات من عمري، إلى دير سيدة طاميش، حيث تعرّفت هناك على راهب عجوز اسمه الأخ حنا، وصرتُ أزوره كل صباح، وأُرافقه يوميًا في مسيره من الدير إلى السهلة. وأذكر أنه كان كل مرّة يقف في السهلة أمام تمثال للسان تيريز، فيركع أمامه، ويبدأ بتقبيل التمثال والبكاء بحرقة، ما كان يجعلني أطرح على نفسي، أمام هذا المشهد، السؤال: هل كان يعشق التمثال حتى كان يبكي بهذا الصدق وهذه المشاعر عنده؟... لاحقًا، حصل لقاءٌ بين رئيس الدير والمطران سليم غزال، وكان لا يزال كاهنًا، فأخبره عني، فضمّني غزال إلى سنتر في دار العناية في شرق صيدا، وهناك عايشت كاهنين آخرين أثّرا بي، هما البطريرك لحام الذي كان أستاذي هناك، والأب سكاف الذي كان يُعلّمنا اللاهوت الأدبي. ومن خلال غزال انضممت إلى الجامعة اللبنانية حيث درست علم النفس، وتعرّفت من خلال الراهبة أوديل سماحة على المطران غريغوار حداد. ونشأت بيننا علاقة أبويّة بنويّة، استمرّت إلى أن أغمض عينيه.
حدِّثنا أكثر عن علاقتك بالمطران غريغوار حداد، وعن مجلة "آفاق"؟
لقد تعرّفتُ على المطران غريغوار حداد، عندما كانت محاولات التضييق عليه في أوجِّها. وكان حينها مطرانًا لبيروت. كان غريغوار حداد مُتجردًا من المال، لم يقصده أحد يومًا وردَّه خائبًا. هو الذي لم يكن لديه حتى في جيبه أحيانًا أجرة السرفيس. بعد ثلاثة أشهر من تعيينه مطرانًا، زارته امرأة كان ابنها يحتاج لعملية في المستشفى، ولم تكن تملك المال لمعالجته. والمعروف أن المطارنة يحتفظون ببعض المال للناس الذين يقصدونهم. ولم يكن لديه من مال حينها. فأخرج الخاتم من إصبعه وأعطاها إياه لتبيعه وتدفع ثمن العملية.
لقد ساهم بولس الخوري في مسار غريغوار حداد الفكري، والخوري هو أستاذ الفلسفة الألمانية واللاهوت الألماني، وكان كاهنًا سابقًا. شارك غريغوار أفكار بولس الخوري، وقدّمها للناس بلغة لبنانية بسيطة غير معقّدة مثل الخوري. لم يكن بولس الخوري يكتب أفكاره باللغة العربية، فكان يترجمها له الدكتور جيروم شاهين في مجلة "آفاق". سبّب الشعار الذي رفعه غريغوار حداد "كل إنسان، وكل الإنسان" انزعاج الكنيسة، وأضيف سبب إضافي آخر لحق به، هو كتابات حداد في مجلة "آفاق"، خصوصًا في العدد الأول، الذي حكى فيه غريغوار عن النقد الديني، هل النقد الديني مسموح أو ليس مسموحًا؟ فشعروا أن كراسيهم التي يجلسون عليها قد اهتزت. كتب غريغوار فقط أربع مقالات من أصل 64 عددًا في مجلة آفاق، وهذه الأربع مقالات كانت كافية لجعله خارج المطرانية والأبرشية. أيضًا، مُنعَ بولس الخوري من تعليم الفلسفة في كل المدارس المسيحية، وكذلك جيروم شاهين الذي عانى في آخر أيامه حيث كان يذهب من جامعة إلى جامعة ليستطيع التعليم مع أنه لم يحكم عليه من مجلس الأساقفة كما حُكم عليّ، لقد مُنعتُ أنا من كتابة اسمي في مقالاتي حتى وصلت إلى درجة أن أستعمل اسم "وردة نخلة" حين أكتب مقالاتي، وبعد ذلك لم تعد الأمور تهمني. كنت بحاجة إلى المال بدوري، فعملت في الجامعة اللبنانية كأستاذ، كما كتبت كصحافي في جريدة السفير لمدة 27 عامًا. وكتبت لجريدة النهار أيضًا، وللأسبوع العربي ولمجلة الفكر ومجلة المعرفة. كما كنت أكتب مقالات للخارج، وقمت بأبحاث بالأنثروبولوجيا للمغرب العربي وغيره، وعلّمت في جامعات خاصة. لقد حُوصِرنا وحُورِبنا كثيراً.
ما رأيك بالبابا الراحل فرانسيس Pope Francis وبالبابا الجديد لاون الرابع عشر Pope Leo XIV؟
البابا فرنسيس كان إنسانًا صادقًا ومخلصًا في رسالته المسيحيّة. لقد قيَّدَته الباباوية، ولكنه كشخص كان يسير درب المسيح وتصرّف على هذا الأساس. لقد دخل إلى الرئيس الأفريقي وقبّل قدميه اعتذارًا منه عن كل الاضطهادات المسيحية. هذا الفعل لا يفعله إلا مسيحي. بالنسبة لي، كان البابا فرانسيس رائعًا جدًّا. أما البابا الجديد لاون فلا نستطيع أن نحكم عليه بعد، لكنهم يقولون أنه يشبه من سبقه في توجهاته. في جميع الأحوال، بالنسبة لي، إنّ أصغر ناسك على رأس الجبل، مُقدسٌ أكثر من كل الكنائس الموجودة، حتى لو كان أُمّيًا لا يعرف القراءة ولا الكتابة. كان هناك على طريق حلب راهب وناسك اسمه سمعان العامودي، كان يريد أن يبتعد عن الناس، فقام ببناء عامود من الحجارة وجلس عليه، وكان يرفعه شيئًا فشيئًا. عندما عرف به أحد الأمراء طلب منه القدوم إلى القصر، لكن سمعان العامودي اعتذر منه وأخبره بأنه لا يستطيع ترك العامود، فأرسل له الأمير خبرًا مضمونهُ: هل تعرف أنني استطيع أن أسجنك؟ فضحك سمعان من كلامه، فهو في الأصل حابسٌ نفسه فوق العامود، فما الفرق؟! بعد أن توفي سمعان، أنشأوا له كنيسة كبيرة هي الأهم في الشرق، تهدمت لاحقًا، وبقي منها بعض الجدران، غير أنها بقيت مميّزة لأنها بُنيت بشكل غريب عجيب. هذا الشخص مثلاً هو أعلى من أصحاب المراكز الدينيّة بالنسبة لي.
ما هي أهم الكتب التي تأثرت بها؟
أكثر قراءاتي كانت في الفلسفة الألمانيّة والفرنسيّة. أما أهم كتاب قرأته فكان كتاب "الغصن الذهبي Golden bough" للكاتب جايمز جورج فريزر James Georges Frazer. وهذا الكتاب عبارة عن أربعة عشر مجلدًا جرى اختصارها في كتاب واحد. وهو برأيي كتابٌ يُقدِّس الإنسان.
سؤال أخير: ما رسالتك لتيار المجتمع المدني وللشبان والشابات العلمانيين؟
برأيي، يجب العمل على فكرة الحب الذي يجب أن تتحرر من المعيقات، كل أنواع المعيقات، كل معيق للحب بين شخصين بسبب الدين يجب أن يتخطوه، بسبب العمر، بسبب الثقافة، حتى بسبب الجنس، يجب أن يتخطوه. يجب التحرر من كل شيء. الإنسان هو المقدس. المسيحية تقول "خلق الإنسان على صورته ومثاله"، والإسلام يقول "خلق الإنسان في أحسن تقويم". ماذا لو بعد فترة من الزمن قاموا بأبحاث عبر الذكاء الاصطناعي وتم اكتشاف أن الكتب ليست أصلية، ماذا سيحدث؟ أول صفحات من الإنجيل اكتشفوها في سينا، تصوروا أن الفاتيكان بسطت يدها على الموضوع بعد أن أرسلت بعثة إلى هناك، وقد منعت هذه البعثة نشر أي صحيفة إلا بعد أن يسمح الفاتيكان بذلك. ما نقرأه اليوم يمكن أن يكون فيه شك، من يستطيع أن يجزم بأن ما هو مكتوب صحيح؟ أما أخبار اليهود، من يستطيع أن يجزم أنها صحيحة؟ ما معنى الكتاب إن لم يكن المحتوى هو الأساس؟ وإذا لم يمارَس المحتوى. بالتالي، أكرر، الإنسان هو المقدّس، ويجب العمل على فكرة الحب، أي محبة الإنسان، كل إنسان، وكل الإنسان.
***