ترتفع في الساحة السياسية هذه الأيام
الأصوات المُطالِبة بإقرار قانون انتخابات نسبي يخطو بلبنان خطوة مُتقدّمة نحو
الحداثة. ولا شك أنّ المتتبع لتاريخ الانظمة الانتخابية التي طبقت في لبنان وما
رافقها من تقلبات على صعيد حجم الدوائر وكيفية تقسيمها وتركيب بعضها أحياناً على
قياس مصالح الطبقة السياسية الطائفية الممسكة بزمام الحكم، جعل من النظام
الانتخابي الأكثري بمزاجيّة تقسيم دوائره عاملاً مُكرّساً للطائفية السياسية، بل
مُساهماً في تأخيرنا أشواطاً كبيرة إلى الوراء!
ورغم أهميّة الإصلاحات الانتخابية التي
نطالب بها كمجتمع مدني وهيئات ضاغطة، بدءاً بمطلب خفض سن الاقتراع مُروراً بمطالب
تنظيم الانفاق والإعلام والإعلان الانتخابي وصولاً إلى تعزيز مشاركة المرأة ترشحاً
في مجلس النواب، تبقى للنسبية ميزتها الخاصة التي تتعدى كونها إصلاحاً انتخابياً
يضمن صحة التمثيل وعدالته (نيل مقاعد بحسب نسبة الأصوات)، لتلعب
دوراً مُهماً خاصاً بواقع المجتمع اللبناني، بمساهمتها الثانية - ولو على مراحل
متوسطة وطويلة الأمد - في بناء الدولة المدنية.
فالنظام النسبي مع دوائر كبيرة يُشكل رافعة أساسية في بناء
الدولة المدنية وفي تعزيز انتماء الفرد لمواطنيته. وتترجم أهميّة هذا النظام في
هذا الإطار على صعيدين:
- أوّل، يتعلّق بالمرشحين للنودة البرلمانية
الذين يجدون أنفسهم في ظل إلزامية الترشح في لوائح أو قائمات، مُضطرين للتعاون مع
مُرشحين آخرين داخل دوائرهم والتوافق على الجوامع المشتركة بينهم، ويتحمل هؤلاء بالتضامن مسؤولية اختيار الخطط
والبرامج والسياسات الجامعة. فنظام
الدوائر الكبرى ونظام انتخاب اللوائح يُجبر - بشكل أو بآخر - المرشح (ولو ما زال
انتخابه يتم على أساس طائفي) أن يتعاون في إطار الدائرة الانتخابية الواحدة مع
مُرشحين من مَشارب مختلفة لإنتاج لائحة تتضمن برنامجاً أكثر عَصريّة ومدنيّة.
- ثانٍ، يتعلّق بالناخبين الذين يدفعهم نظام
اللوائح (أكانت مقفلة أو مفتوحة أو حرّة) إلى التوجه بإدلاء أصواتهم لمصلحة اللائحة صاحبة الخيارات
التي تلبي الاصلاحات الأكثر إفادة لتطلعاتهم، وصاحبة البرنامج الأكثر فعالية في
تطوير مجتمعهم. وبالتالي يستبدلون تدريجياً، بسبب طبيعة نظام اللوائح وكبر حجم
الدوائر، اختيار النائب لعلاقتهم الشخصية به، باختيار اللائحة لبرنامجها. فيطغى
التصويت للبرامج على التصويت للأشخاص، مما يضعف من حدة الزبائنية
السياسية.
من هنا نجد النظام النسبي غير مجدي التطبيق
في ظل دوائر صغيرة، فهو لا يمكن أن يلعب دوره لجهة صحة التمثيل وعدالته وتطوير
المجتمع إلا باعتماد الدوائر الكبيرة أي نظام لبنان دائرة واحدة أو نظام
المُحافظات، على ألا يتعدى عدد الدوائر فيها الست أو السبع كحد أقصى.
ولا شك أنه رغم أنّ خيار لبنان دائرة واحدة
هو الخيار الأفضل نظرياً للنظام النسبي، غير أنّ اعتماد الخمس أو ست أو سبع دوائر
(أي المحافظات) قد يلعب دوراً انتقالياً ومرحلياً مُجدٍ في ظل النقص الحالي في
تشكل الأحزاب والتيارات السياسية اللاطائفية في بلدنا.
وإن كان بعض الباحثين يعتبر أن نتائج تطبيق
النظام النسبي في الاستحقاقات الانتخابية الأولى قد يزيد من الانتخاب على أساس
طائفي، غير أنّ هذه النتائج في حال وقوعها لن تكون سوى مرحلة انتقالية، مصيرها أن
تتغيّر مع تطور وعي المواطنين وتصحيح دورهم كناخبين لبرامج ذات فائدة عامة، على
حساب دورهم السابق. وبذلك نكون قد باشرنا بوضع المدماك الصحيح التربوي والحقوقي
لبناء حس المواطنة الحقيقي في الانتماء للدولة.
إنّ تطبيق النظام النسبي على صعيد الدوائر الكبيرة يُعزز إنشاء
الأحزاب الوطنية العابرة للطوائف، ويساهم في تعزيز مفهوم المواطنية لدى الأفراد، ويلعب بالتالي
دوراً أساسياً لا ثانوياً في بناء الدولة المدنيّة.