القلب الكبير، الشجاعة، الإرادة والأمل، ... صفاتٌ حملها شابٌ يافعٌ وصلَ من القرية إلى المدينة، ليُكمِل دراسته، ويَتخرّج، في العام 1933، طبيباً من الجامعة الأميركية في بيروت.
لكنّ
المُثير في قصة طبيبنا الشاب – العاطفي والمُلتزم – أنّ طموحه أخذه في اتجاهٍ مُغاير،
... أخذه إلى حيث يرتاح القلب وتتنفسُ الروح، ... هناك، في قريته الجنوبية البعيدة
عن بيروت.
...
وإلى هناك،
...
بقيت عيناه شاخصتان طوال فترة الدراسة، ويوم التخرج!
***
نبحثُ
دائماً في هذا العالم عَمَّن يَبُثُّ فينا الأمل ويُرشِدنا إلى درب المحبة... وهذا
ما قدّمهُ لنا شكرالله كرم حين حمل أدواته الطبيّة، وما في جعبته مِن همّة وحب
وحسٍّ إنسانِيّ، وتوجّه عائداً إلى بلدته، ليُمارس هناك رسالته الإنسانيّة، من
خلال مهنته، بالطريقة التي أحبها وطمح إليها.
داوى كرم آلام الناس، وضمَّد وبلسَمَ الجرّاح، في زمنٍ كانت الطبابة فيه غير مُتوفرة في القرى والبلدات البعيدة عن بيروت، وأحوال الناس المادية صعبة جداً، والفقر مُنتشر، والتعليم مُقتصر على قلة من طبقات المجتمع.
واجه الفقر والجهل في زمن
الانتداب، وبعده في زمن العدوان الصهيوني على لبنان، فوقف إلى جانب المساكين، مُحَوِّلاً
بيته إلى مُستوصفٍ يُعالج فيه المرضى في عقودٍ صعبةٍ من تاريخ الوطن عامة، والجنوب
خاصة. كان
يحمل أدوِيته على حصان، ويَتجوّل في سهل الخيام وفي القرى المحيطة ببلدته، مُقدماً
العلاج لمن هُم بحاجته مِن المُزارعين والفلاحين. فما كان من أهل الخيام إلا أن أطلقوا عليه لقب "أب
الفقراء".
كانت مَواقفُه، أيضاً،
سبباً في اعتقاله من قبل سلطة الأمر الواقع آنذاك. لكن أهل بلدته، وقفوا إلى
جانبه، مُبادِلِينَه المَعروف والحب. ولم يَستكينوا حتى تحقّق مُرادهم بالإفراج
عنه.
***
في أواخر الستينات ومطلع السبعينيات، تعرضت بلدات حدوديّة عديدة في الجنوب، منها الخيام، لانتهاكات مُتكرِّرة من قبل الجيش الإسرائيلي. وشهدت ساحاتها مُواجهات شرسة، كَراً وفَراً، بين المقاومين والفدائيين الفلسطينيين واللبنانيين من جهة، والآلة العسكريّة الصهيونية من جهة أخرى. وفي شهر شباط من العام 1977، قام الاحتلال بقصفٍ عشوائي لبلدة الخيام، استشهد جَرَّاءَه عدد كبير من أهلها، ولَحِق الدّمار العديد مِن المنازل فيها، فما كان من كثيرين من أهل الخيام إلا أنْ نَزحوا خارج منطقة التوتر الأمني هرباً من القصف. لكن شكرالله كرم، الطبيب المُلتزم، أبا مُغادرة بلدته، رغم رحيل أسرته إلى بيروت، وأصرّ على البقاء والصمود مع من تبقى مِن سكان، مُقاوماً على طريقته هذا العدوان، ... ومُواجهاً قدره!
اغتيل الطبيب شكرالله كرم يوم الخميس، في 17 شباط 1977، عن عمر ناهز الثلاثة وستين عاماً.
في صبيحة ذلك اليوم، وقبل
اغتياله بساعات، بعثَ كرم رسالته الأخيرة إلى عائلته، كاتباً فيها:
لم يبق عندي أكثر
من ذلك أعطيهم، أفيحق لي أن أمنعه؟
وتقولون ما زال في
البيت من هم بحاجة إلي! لعمري عهدتهم رجالاً، بهم أقوى، أتحدى المستحيل والشباب
ملئ بردي. أفأترُك الخيام تحترق والجنوب كئيب. علني أعيد إليه بعض فرحه. ليت الفرح
يُزوبِع حول الوطن الصغير فيدخل من الأبواب ويعصف من النوافذ ويخترق الشقوق. وإن
تفرَّقَت العائلة الصغيرة فستجتمع، تستظلّها خيمة الحب.
الأمور في المنطقة
تتطور بسرعة وإلى الأسوأ. يفتعلون الحوادث لتخريب سلام مُتواضع حرصنا عليه. رائحة البارود تعبق
في الأجواء. أحسُّ بأننا قادمون على مجزرة خُطط لها. مسكينٌ إنسان هذي الحدود
الجنوبية، كم يتحمّل من شقاء؟ أسيبقى مَن عبَر الحدود مُصرِّين على إبادتنا؟
سيطلعُ فجرٌ وقد
ارتاحت الأرض من مُغتصبيها وأشرقَت على وطننا شمس السلام.
لا تُفكروا بي مُطلقاً
وهذا يريحني. أقبِّلكم فرداً فردا... ولكم مني عاطر السلام وأطيب الأماني وكل حبي.
مِن والد هو هكذا
فهل تقبلوه؟".
***
سلام وتحية إلى روح شكرالله كرم، الطبيب المُناضل والشجاع، المُفعم بالعاطفة والإرادة الصادقة والرغبة بالعطاء دون مقابل... صاحبُ الحب الخارج عن المألوف...
السلام، وكل الإعجاب والاحترام، إلى "إبِ الفقراء" الذي حمل في فكره وقلبه قيمَ التسامح الإنساني والعلمانيّة، فكان قدوةً يُحتذى بها في بلدته وبلاده، هو الذي غمَر الفقراء والمساكين دوماً بحُبٍ عميق، ... حبٍ ظلّ، طوال سنواتِ حياته، يَتدفّقُ وينساب، ليَعزُفَ لحناً سَرمدياً في قلوب جميع مَن عَرَفَهُ ومَن طالع سِيرته!
***
باسل عبدالله
22/2/2023
#شكرالله_كرم #الخيام #لا_للطائفيّة