منذ تكريس ميثاق العام 1943 الإستقلالي حتى يومنا هذا، كانت ولا تزال بعض الزعامات المخضرمة والمتجددة على الساحة السياسية اللبنانية تتسابق في المزايدة على بعضها البعض بالوطنية وبالإنتماء للوطن وتحديداً في رفض أية هيمنة أو أي تدخل سياسي من أية دولة أجنبية في شؤون الوطن.
ورغم هذا، كنا نجد دائماً هذه الزعامات، بعد أن تتسابق جميعها في إطلاق المواقف السياسية التي تعتبرها وطنية، تنتقل إلى تبادل الإتهامات في ما بينها على تصنيف هذه المواقف، إلى حد نعت كل زعامة للأخرى بالعمالة أو التبعية لإحدى الدول الغريبة. فتختلط المفاهيم وتلتبس مضامين التوجهات الوطنية!
وبينما تُثني بعض الزعامات على موقف معين باعتباره، بنظرها "من أعلى درجات الوطنية"، ترفضه بعض الزعامات الأخرى معتبرة إياه "من أعلى درجات العمالة للخارج"!
وعندما يُطرح السؤال على هذه الزعامات حول المعايير التي استندت إليها كل منها لتمييز المواقف الوطنية من غير الوطنية، تكثر المعايير وتتناقض الإجابات بين زعامة وأخرى!
في خضم هذه البلبلة، يتشتت الأفراد في المجتمع وينقسمون في تعريفهم للوطنية وللعمالة بمقدار إنجذابهم الإرادي أو غير الإرادي لزعامتهم، بحكم تمثيل هذه الاخيرة للطائفة التي ولدوا في كنفها، فتشكل بالنسبة إليهم المرجعية الصالحة الوحيدة في التفكير والتوجيه، ويعتبرونها، من دون أي نقاش، المدافع الأول عن الإنتماء الوطني الصحيح.
ولكن، أي انتماءٍ هذا، في ظل ما تمارسه الجماعات الطائفية من:
أ- تبعيّة للخارج ودفاع عن نظام طائفي، رغم إصرار دائم في المجاهرة الإعلامية بالوطنية.
ب- تنشئة الفرد على ثقافة الفرز بين المواطنين، وتعبئة دورية له في مواجهة ما يتعارض ومصالح الجماعة الطائفية.
ج- إعطاء التحالفات الحزبية صيغة التحالف بين طائفة وطائفة، لا بين مواطنين متماثلين داخل الوطن.
يصعب على هذه الزعامات، بل لا تستطيع أن تؤمِّن لمناصريها ما تصوره لهم من وطنية وإستقلال، لأنها ببساطة لا تستطيع هي نفسها أن تقف موقف الحياد تجاه الدولة الداعمة لها في المنطقة أو أبعد من ذلك!
إنّ الشعور بالإنتماء للوطن لا يختصر بوجود ثقافة أو لغة واحدة لأبناء مجتمع ما على أرض معينة، إنما يستلزم أولاً، عدم التبعيّة من قبل الجماعات اللبنانية للقرار الخارجي وبالتالي التخلي عن الدعم الذي يوفره هذا الخارج لها، وثانياً، التوجه نحو نظام مدني يساوي بين جميع المواطنين في الحقوق والواجبات، ويتبلور على أرض الواقع بأمثلة منها حق الجميع في تولي الوظائف العامة، وتوفير تربية عائلية ومدرسية واجتماعية تمتّن شعور المواطنة لدى الشباب، وإقتراح منهاج مدرسي موحد لجغرافيا لبنان وتاريخه السياسي والديني، وطرح قانون انتخابات نسبي على صعيد الدائرة واحدة أو دوائر كبرى وقانون مدني للأحوال الشخصية.
كما أن الشعور الصحيح بالإنتماء للوطن عند الفرد في المجتمع لا يمكن فعلياً أن يتحقق إلا في ظل نظام مدني علماني يؤكد على عدم تدخل الدين في تنظيم المجتمع والدولة وعدم تدخل الدولة في الحياة الدينية والجماعية وإحترام جميع الأديان مع فسح المجال للتعاون والتفاعل بين قيم المجتمع الإنسانية والدينية.
إذا كان النظام المدني العلماني ضرورة لبناء أي مجتمع في العالم، فكيف بالأحرى بالنسبة إلى لبنان الذي يقع في منطقة تنازع مصالح إقليمية، لا يُحيده عنها سوى اجتماع جهود اللبنانيين، كمواطنين متماثلين متحدين في مجتمع واحد، على تغليب إنتمائهم للوطن على حساب أي إنتماء آخر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق