أتاحت لي زياراتي إلى بلدتي الخيام في السنوات الماضية، المُشاركة في
لقاءات جَمَعت عدداً من الكُتَّاب والباحثين الخياميين على أحاديث ثقافيّة
واجتماعيّة لا تنتهي، أجمل ما فيها ما استُحضِرَ من ذكرياتٍ وقصص عن تاريخ البلدة
وعاداتها وحكاياتِ أهلها. وقد جرت العادة أن تُعقد هذه الجلسات في إحدى مقاهي
#الدردارة أو أحد بيوت الخيام.
حضر اسم #الشاعر_عبد_الحسين_العبدالله (1896-1990) في كثيرٍ من تلك
الجلسات، وكان عمي #الشاعر_حسن_عبدالله يُردّدُ دائماً أمام الحاضرين، أبياتاً مِن
أشعاره، حفظها عن ظهر قلب، منها ما كَتَبَهُ عبد الحسين في انتقاد الزعيم
المُتغطرس أو رجل الدين الفاسد أو المُوظّف المُهمل، في حقبة أربعينيات وخمسينيات وستينيات القرن الماضي.
لم يُعطَ شاعرنا حقَّهُ، بوصفه هامةً من هاماتنا الثقافيّة، لا على الصعيد الوطني، ولا على الصعيد المحلي في بلدته الخيام؛ وقد يكون مَرَدُّ ذلك إلى طابع قصائده المُتمرِّدَة على التقاليد والمُنتقدَة للنافذِين من زعامات ورجال دين عاصروه. هذا إضافةً إلى تقصير الجهات المعنية، أصلاً، في تسليط الضوء على الوجوه الثقافية، بل وعدم اعتبار موضوع تكريمهم أمراً واجباً من الأساس! ... فبينما يُحتفى بأهم الشخصيات الثقافيّة في العالم ويُعتبَرون ثروةً وطنيةً ومصدر اعتزاز وفخر لأي بلدة وُلدوا وترعرعُوا فيها أو انطلقوا منها، يُهمَل إنتاج هؤلاء في بلداتنا وبلادنا، ويُطمس تاريخهم!
بحثتُ عن أشعار الشاعر عبد الحسين العبدالله، فوجدتُ أنّ ما نُشِرَ منها قليلٌ جداً، وما حكي عنه يَقتصِر على مقالة في صحيفة هنا أو أخرى في موقعٍ إخباري هناك. وبعدما سألتُ في الخيام عن أرشيفه، ظفرتُ بنسخةٍ مُصَوَّرة من ديوانه الذي جمع مُعظمَ قصائده، وعنوانُه "حصاد الأشواك".
***
حَمَلَت قصائد شاعرنا، في أغلبها، نفحةً دراماتيكية، رغم تَميُّز أغلبها بالعرض الساخر والنقد اللاذع، جنباً إلى جنب مع السلاسة في التعبير، حتى أمكننا وصف أشعاره بأنها ذات حس "دراماتيكي – كاريكاتيري" بامتياز.
كان الشاعر عبد الحسين العبدالله رجلاً ثائراُ على التقاليد، شجاعاً، يَصحُّ فيه القول بأنه لا يخاف أحداً، ولا يلتزم بما فُرِضَ على العامة من أعراف أو تقاليد اجتماعية أو سياسية.
صَوَّر المشاهد الحياتيّة المُتنوعة كما هي، وكذلك المُمارسات الظالمة والمُنتهكة لحقوق الناس، وأبدعَ في وَصفِها، مُعلناً رأيه بوضوح، مُطلِقاً مَوقفه منها بصدقٍ وجرأةٍ لا مُتناهيان وبحسٍ نقدي، مُعرِّياً مَن وقعَ عليهم الاختيار مِن حصاناتهم المُكتسبة اجتماعياً، غير آبهٍ بِمَكاناتهم مهما علت أو بِسُلطتهم ونُفوذهم مهما امتدّ.
شكّل شعر عبد الحسين العبدالله إزعاجاً حقيقياً للمراجع السياسية والاجتماعية في منطقته، في زمن كان فيه الشعر، وتحديداً في المدن والقرى البعيدة عن بيروت، البوق والوسيلة الإعلامية الأخطر التي يَحسبُ لها السياسيون ألف حساب ويَخافون من سلاطة ألسنة أصحابها ويَتجنَّبُون الاحتكاك بهم قدر الإمكان.
كان سلوكُه الاجتماعي الثائر الذي عبَّر عنه من خلال قصائده سبباً أساسياً في فقدانه الكثير من أصدقائه، كما كان له الأثر المباشر في وحدةٍ عانَى منها في حياته، وهذا ما أشار إليه بوضوح في بعض أبيات شعره.
***
قدّم لنا الشاعر عبد الحسين العبدالله إنتاجاً إبداعياً مُهِمّاً، وترك لنا أرشيفاً مُميزاً وثميناً، لم ينل عنه، برأينا، ما يستحقّه من تقدير. وهو في ذلك، مثله كمثل مَن لحِقَه مِن شعراء كبار أنجبتهم الخيام...
نبقى اليوم نرى في هذا الشاعر الحرّ، صورة الإنسان المُبدع والمُناضل، الرافض للظلم والفساد بشتّى أشكالهما. ونبقى نستلهم من شجاعته المعنويات والتحفيز في ما نُواجهه اليوم في بلادنا من فساد، وكأنه نطق بألسنتنا وبما نشعر به، هو الذي كان وحده في ذاك الزمان، في صراعٍ - أشبه بالعبثي - مع سلطة الاقطاع السياسي القاضمة حقوق الناس.
وفي ظل إهمال الجهات الرسمية، المحليّة والعامة، نَبقى نُعوِّل على النوادي والحركات الثقافية لتلعب دور الإضاءة على هذه الهامات الثقافيّة الكبيرة، في زمنٍ باتت الثقافة فيه، بِنظر المَسؤولين والمعنيين، في أدنى مُستويات الاهتمام وأحياناً أمرٌ حرام. وأما الجهالة، بالمقابل، فقد صار لها السَطوة، وأضحى لأصحابها كل الإجلال والاحترام!
***
يبقى أن نعرض في ما يلي، أبياتاً اخترناها لشاعرنا (مع قصصِها)، نُعرِّف من خلالها القارئ الذي لم يتسَنَ له الاطلاع على انتاجه بعد، على بعض أشعاره:
قَطعَ لصوصٌ على الشاعر عبد الحسين العبدالله الطريق، فيما كان مُتَوَجِّهاً من وادي جيلو إلى صور برفقة بعض أصدقائه، وبعد أن سلبوا رفاقه نقودهم، وصل الدور إليه، غير أنهم لم يعثروا في أجيابه إلا على قصاصات أوراق كُتِب عليها بعضٌ من الأبيات، فما كان من شاعرنا إلا أن وصف ما حصل معه بالقول:
قطع اللصوص لي الدروب وقبلهم/ قطعَت حكومتهم
عليَّ دروبي
خصمي الحكومة واللصوص كلاهما/ شاكي السلاح
لحرب كل أديب
ودَنا إليَّ من اللصوص مُلثَّمٌ/ صعبُ المراس يكر غير هيوب
أمسى يُفتِّشُنِي وأسخر ضاحكاً/ فسوى
القصائد لم يكن بجيوبي
وخجلت منه حين قال لصحبه/ ما أشبه السلاب
بالمسلوبِ.
ويُجيب الشاعر على أحد رجال الدين الذي سأله عمَّا إذا كان يُصلي، فيقول:
علاّمة العصر من أنباك قد كذبا/
إني أصلي فعقلي بعد ما ذهبا
ولحيتي لم تطل كلحيتكم/ ولا عقفت
كابن الأسعد الشنبا
ولا حملت كذيل الهر مسبحة/ ولا
تركت الهوى والشعر والأدبا
نكبت بالشعر تكفيني موائبه/ دعني
ومن بالصلا والصوم قد نكبا
عفت الصلاة لشيخ راح يمنعني/ شرب
المدام ودوماً يأكل العنبا
يعذب الله مَن خان البلاد ومَن/
باع الضمير ومن مارى ومن سلبا
أما أنا كي أزيد النار فوقكم/ قدّمت
جسمي إلى وقَّادها حطبا
ومن أبياته في انتقاد الحُكّام:
قرود على كرسي الشَّريعة تجلس/ وأقزام أقوام
علينا ترأس
حكومة هذا اليوم كالأمس لم يزل/ يقرب فيها
الخائن المتجسس
وعهد رياض مظلم مثل غيره/ وأشقى من العهد
القديم وأنحس
فلو كنت أدري أن هذا مصيرنا/ لما كان قبلي
واحد يتفرنس
وما كنت لاقيت الذي قد لقيته/ فأُبعد عن أهلي
وأُنفى وأُحبس
ويقول وكأنه
يتحدث عن زماننا:
سياسة اليوم لا دين ولا شرف/ ولا حياة إذا ناشدتهم وقفوا
بلابل الأرز تعرى في خمائله/ ووحش لبنان بالأزهار يلتحف
وعزل كل أديب من دوائركم/ هذا هو العدل والإصلاح والنَصف
يا حاكمين ومن أذنابكم زمر/ في كل كرسيّ حكم أحمق صلف
إن عاقكم ذو حياءٍ لم يكن شبعاً/ مما نعمتم به لكنه قرف
ويقول أيضاً في انتقاد السياسيين:
رحماكم أيها النواب والزعما/ فلا تُعيدوا من الأوثان ما انهدما
صرحُ العبودية الخرقاء خرَّ على/ بُناتِه أمطروه اللعن والنقما
لا ترفعوا حجراً فيه على حجرٍ/ يا ويلكم ترفعون البغي والصنما
بيت من الجور كم في ظله هتكوا/ شرائعاً واستباحوا عنده حرما
وكرُ اللصوص لغير النزل ما اتسعت/ رحابُه وسوى الجانين ما احترما
لا تُخدعوا بقدور حوله نصبت/ فإنهم يخلطون السم والدسما
موائدُ مدها الطاغون مِصيَدةً/ لسذج القوم لكم سميت كرماً
شيِّدوا لنا بيت علم ينشئ العلما/ لا تُعمِّروا بيت جهل ينشئ الخدما
ويقول أيضاً، وكأنه يصف أحوالنا:
لبنان أرض عجائب ومهازل/ يودي القتيل ويحتفي بالقاتل
وأمام دار الحاكمين حفاوة/ بالمجرم الجاني لنصر الباطل
يا عهد سوَّدتَ الوجوه فكلنا/ ودَّ الرجوع إلى الزمان الراحل
إن حنَّ واحدنا إلى عهدٍ مضى/ كان الحنين إلى القضاء العادل
وعن دار أحد الزعماء السياسيين وكبير أزلامه "أبو علي" والوُفود
التي تزور الدار يقول:
كيف تحلو هنا حياة المقيم/ والغلاظات في مضيف الزعيم
جلسوا كالسوام في فسحة الدار/ بهيمٌ محدقٌ بِبَهيمِ
يتعالى أبو علي عليهم/ فرأينا الخدام كالمخدومِ
علفَ الكل من يديه فإما/ جاءهم قابلوه بالتعظيم
هو مقري الوحوش إن شاهدوه/ همهموا بالوقوف والتسليم
ويستهجن عبد الحسين العبدالله رؤية الوزير والنائب السابق عادل
عسيران له وللشاعر موسى الزين شرارة، وعدم سلامهِ عليهما، أثناء مروره بسيارته
الكديلاك بقربهما، فيقول:
أيا سيّارة
الكديلاك سيري/ عليكِ ألف طنّ من غرورِ
مرّ الزعيمُ ولم
يسلّم/ على موسى ولا العبد الفقيرِ
ويتباهى شاعرنا
بنفسه، إنما على طريقته الساخرة فيقول:
إذا رأيتُم رجُلاً/ تُحِبُّه كلّ القلوبْ
مُمتلِئاً كرامةً/ لكنّه فاضي الجيوبْ
فإنّه ـــ وأحرّ قلبي ــــ شاعرٌ من الجنوبْ...
ويقول الشاعر أيضاً:
اترع الكأس خمرة يا نديمي/ واسقني شربة لأنسى همومي
لا تقل حُرِّم المدام علينا/ أنا أدرى بموضع التحريم
ليس لي عمة الشيوخ ولكن/ لا ترى مثل شاعر من عليم
مِن خيالي صوّرت ديناً لنفسي/غير دين الورى بديع الرسوم
كل دين في الكون للعرب ديني/ كل عادٍ على حماها غريمي
ويقول أيضاً:
بين العمائم واللحى/ إبليس يبحث عن جحا
قد ألقحوها فتنة/ دارت بنا دور الرحى
سكرٌ بغير إفاقة/ يا رب سكرانٍ صحا
ومن أبيات الشاعر أثناء مروره ببلدة جباع في إقليم التفاح
مع صديقه الشاعر موسى الزين شرارة:
نزلنا في جباع على الشّيوخِ/ فقالوا ألف أهلاً يا تنوخي
وسِرنا بين حشدٍ من لحاهم/ مسيرَ الطيرِ
ما بين الفخوخِ
وعن أحواله ووظيفته يقول:
حكومتي حين أدعو لا تُلبيني/ فليس عندي وسيط في الدواوين
سواي يقفز في الأيام راتبه/ ويعتلي من ثلاثينٍ لسبعين
أما أنا فالسنين العشر قد سلفت/ وراتبي
راتبي من يوم تعييني
إذا تذمرت من أفعالهم غضبوا/ وجيشوا
لاضطهادي كالمجانين
ويتحدث عن وحدته:
أنا في عالمٍ بعيدٍ عن الناس/ وإن كنت بين جمع غفير
أتلوى على فراشٍ من الهَمّ/ وإن نمت في الفراش الوثير
ما شربت المدام إلا لألهو/ ساعة عن صغيرتي وصغيري
وعن الأصدقاء يقول:
عتبتُ على الرفاق وطال عتَبي/ جَفوني دون ما سبب وذنب
أنا وحدي أعيش بلا صديق/ وأكوامٌ من الأشواك دربي
أخاف إذا سأَلتُ الناس عنهم/ أُجاب بغير ما يهواه قلبي
ألا طيرٌ فيحملني إليهم/ ويجمعني بأحبابي وصحبي
***
باسل عبدالله