‏إظهار الرسائل ذات التسميات باسل عبدالله، العلمانية، مفكرون مجددون، مفكرون مسيحيون ومسلمون مفكرون تنويريون، مفكرين مجددين،. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات باسل عبدالله، العلمانية، مفكرون مجددون، مفكرون مسيحيون ومسلمون مفكرون تنويريون، مفكرين مجددين،. إظهار كافة الرسائل

الأحد، 17 أغسطس 2025

آراء مفكرين مسلمين ومسيحيين مُجددين عرب في العلمانية والدولة المدنية - باسل عبدالله

 واجهت العلمانية في كثير من الدول العربية، منذ أواخر القرن التاسع عشر، موجات من المعارضة والتكفير، أكان على خلفية اعتبار مصطلح العلمانية مستورد من الغرب، أو على خلفية تصرف بعض المفكرين الرافضين لهذا المصطلح وربط أصله زيفًا بكلمة “عِلم”، مُعتبرين كلمة علمانية مُشتقةً منها ويجب أن تلفظ بكسر العين.

في المُقابل قدّم مُؤيدو العلمانية هذا المفهوم بمعناه الإيجابي المرتبط مباشرة بالهوية الإنسانية وبحياة الناس ومصلحتهم وتطورهم، باعتبار العلمانية نظامًا يساوي بين جميع الناس دون أي تفريق لجهة اللون أو الدين أو المذهب أو الجنس. ودافع أصحاب هذا الرأي عن العلمانية بوجه محاولات تشويهها وإقحامها في صراعات مع الدين، مُؤكدين أنّ المواجهة التاريخية في أوروبا لم تكن مع الدين بجوهره كإيمان بالله وكدعوة إلى الحرية والعدالة والمحبة، بل مع “السلطة” التي حكمت باسم الدين، لخدمة الحاكم المُتسلّط.

وقد وجدنا من المفيد، فيما يلي، تسليط الضوء على آراء بعض المُفكرين المسيحيين والإسلاميين المُجدِّدين في الخطاب الديني، والتي تناولوا فيها مواضيع العلمانية والدولة ونظام الحكم الأمثل.

مُفكّرون مسيحيّون:

في كتابه “العلمانية الشاملة”، يقول المطران غريغوار حدّاد بأنّ العَلمانية (بفتح العين)، هي نظرة شاملة للعالم (المجتمع والإنسان والفكر) تؤكد استقلالية العالم بكل مقوماته وأبعاده وقيمه وسلوكيته تجاه جميع المذاهب الدينية أو اللادينية والفلسفات على أنواعها، نظرة تتطلب الممارسة الفعلية ولا تكتفي بالأفكار التجريدية المحض. ويعتبر حدّاد أنّ العلمانية المجتمعية تعني استقلالية المجتمع المدني، بأفراده وتجمعاته، عن المجتمع الديني والعكس بالعكس، بحيث لا تتدخل التجمعات الدينية، أي الطوائف، في التأليف الوطني، لا بشكل قانوني – فدرالية الطوائف مثلاً – ولا بشكل واقعي عفوي، كما ولا يعتبر أي دين أو طائفة، دين الدولة أو طائفتها، وأنّ لمُعتنقيها امتيازات من دون غيرهم.

ويُوضح حدّاد في إحدى مقابلاته بأنّ “العلمانية شأن مجتمعي”، ويضيف: “أنا أؤمن بالمسيح، وإيماني الديني مهم في حياتي، هذا لا يعني أن لا ينعكس إيماني الداخلي على المجتمع. المسيح قال “كنت جائعًا فأطعمتموني”، يريدنا أن نتولى مسؤولياتنا في المجتمع ومسؤوليات سياسية جماعية، مؤسساتية وقانونية، وليس فقط فرديّة، ولكن ليس كمسيحي بل كمواطن لبناني، ونفس الأمر بالنسبة للمسلم”.

أما المطران جورج خضر فيقول في مقالة له في خضم الحروب الطائفية اللبنانية: “يبدو لي أنّ الدولة العلمانية التي تحترم كل دين وتُرحّب بكل مواطن كفؤ في المنزلة اللائقة بخدمته هي الأقرب إلى قلب الله”. وفي نفس هذا الإطار يقول الأب جورج مسوح في إحدى مقابلاته التليفزيونية: “يجب على الدين أن يجمع محبة ورحمة وإلفة بين الناس، لذلك، أرى أنّ الدولة المدنية هي الأقرب إلى الفكر الديني بمعنى المساواة والمحبة والرحمة، والمدني هو الأقرب إلى الذهنية الدينيّة ممّن يتكلّمون باسم الدين اليوم.

ويعتبر الفيلسوف والكاهن بولس الخوري أنّه “في الزمن البعيد، كان العالَم مُقسّمًا إلى إكليروس يملك المعرفة، وعلمانيين لا يملكونها. من هذا المنطلق، كان الإكليروس هو من يصنع الثقافة على أساس نظرته الدينيّة إلى العالم، وهي مرتكزة على مقومات هي: المعتقدات، والعبادات، والأسس الأخلاقية، والمؤسسات الاجتماعية والإمساك بالحياة السياسية. عندما تأتي الدنيويّة، تدحض تلك المقومات فلا يعود الشعب جاهلاً، إذ تثقّف؛ الثقافة تتطوّر ولا تعود ملك الإكليروس. حينها، يحصل نوع من التصالح بين العلمانيين والثقافة من جهة، وتنافس من جهة أخرى مع الإكليروس لأنّ الفريق الديني ثابت، غير متحرّك، أمّا الثقافة، فهي في تطور دائم. وفي نهاية المطاف، تقول الثقافة للإكليروس، أنتم مُتأخرون، وهنا تحصل القطيعة. ماذا تقول عندها الثقافة لمقوّمات النظرة الدينية؟ ترى أنّ معتقدات الإيمان أسطورية وغير عقلانية، وأنّ العبادات غير فعّالة أو واقعية، وأنّ القيم الأخلاقيّة مثاليّة إلى حد لا يمكن تحقيقها، وأنّه لا حاجة إلى المؤسسات الاجتماعية الدينية لأنّ المجتمع المدني بنى مؤسساته، فما جدوى خلق مجتمع في المجتمع؟ فليكن المجتمع شاملاً، وليكن الدين جزءًا منه”، ويضيف: “المجتمع مدني، وهو حكمًا مؤلف من التنوع الإنساني الموجود فيه، لكن الجامع لهذا التنوّع عليه أن يكون الدولة العلمانية التي لا تخضع لأي دين أو عقيدة. وهي تحافظ على حريّة كل مواطن من دون أن تؤذي حريته وحرية الآخر”.

من جهته، يقول المفكر والكاهن الدكتور جيروم شاهين: “العلمانية تحمل العديد من القيم التي أصبحت اليوم قيمًا شمولية لم يعد بوسع أي مجتمع، إذا أراد أن يكون حديثًا وأن يطبِّق شرعة حقوق الإنسان وأن يؤسس انتماء جميع أبنائه على المواطنة الواحدة وأن يطبِّق قيم الديمقراطية، إلا أن يعتمدها في تنظيمه وإدارته”.

مُفكرون إسلاميون:

تناول الشيخ محمد عبده مُفتي الديار المصرية منذ العام 1899، موضوع الدولة في كتاباته، وفيها يقول: “فالأمّة أو نائب الأمة (يقصد نواب الأمة) هو الذي ينصبه ( الحاكم ) والأمة هي صاحبة الحق في السيطرة عليه، وهي التي تخلعه متى رأت ذلك من مصلحتها. فهو حاكم مدني من جميع الوجوه، ولا يجوز لصحيح النظر أن يخلط الخليفة عند المسلمين بما يسميه الإفرنج ثيوقراطية أي سلطان إلهي، فإن ذلك عندهم هو الذي ينفرد بتلقّي الشريعة عن الله، وله حق الأثرة في التشريع، وله في رقاب الناس حق الطاعة”، ويصف محمد عبده أعمال الفتوحات الإسلامية بأنها “أعمال سياسية حربية تتعلق بضرورات الملك (الدولة) ومقتضيات السياسة، ومن ثمّ فهي ليست بالحروب الدينية”.

أما الشيخ علي عبد الرازق فقد أكد على مدنية الدولة في الإسلام في كتابه “الإسلام وأصول الحكم” الصادر في العام 1925 في مصر، حيث قال فيه: “عرفتُ أن الكتاب الكريم قد تنزّه عن ذكر الخلافة والإشارة إليها، وكذلك السنّة النبوية قد أهملتها، وإن الإجماع لم ينعقد عليها، أفهل بقي لهم من دليل في الدين غير الكتاب أو السنّة أو الإجماع؟ نعم بقي لهم دليل آخر لا نعرف غيره، هو آخر ما يلجؤون إليه، وهو أهون أدلتهم وأضعفها. قالوا إن الخلافة تتوقف عليها إقامة الشعائر الدينية وصلاح الرعية إلخ. المعروف الذي ارتضاه علماء السياسة أنه لا بد لاستقامة الأمر في أمة مُتمدِّنة، سواء أكانت ذات دين أم لا دين لها، وسواء أكانت مسلمة أم مسيحية أم يهودية أم مختلطة الأديان، لا بدّ لأمة منظّمة مهما كان معتقدها، ومهما كان جنسها ولونها ولسانها، من حكومة تباشر شؤونها، وتقوم بضبط الأمر فيها”، ويضيف: “القرآن كما نرى يمنع صريحًا أن يكون النبي، حفيظًا على الناس، ولا وكيلاً، ولا جبارًا ولا مسيطرًا، وأن يكون له حق إكراه الناس حتى يكونوا مؤمنين: ومن لم يكن حفيظًا ولا مسيطرًا فليس بمَلِك، لأن من لوازم المُلك السيطرة العامة والجبروت، سلطانًا غير محدود”، ويُضيف أيضًا: “والحق أن الدين الإسلامي بريء من تلك الخلافة التي يتعارفها المسلمون، وبريء من كل ما هيّأوا حولها من رغبة ورهبة، ومن عزّ وقوة. والخلافة ليست في شيء من الخطط الدينية، كلا، ولا القضاء ولا غيرها من وظائف الحكم ومراكز الدولة. إنما تلك كلها خطط سياسية صرفة، لا شأن للدين بها، فهو لم يعرفها ولم ينكرها، ولا أمر بها ولا نهى عنها، إنما تركها لنا، لنرجع فيها إلى أحكام العقل، وتجارب الأمم، وقواعد السياسة”.

في العام 1938، أصدر المفكر والأديب المصري طه حسين، وهو أحد خريجي الأزهر، كتابه “مستقبل الثقافة في مصر”، الذي حاول دمج الشرق بالغرب وإنكار التميز لحضارة الإسلام عن الحضارة الغربيَّة. وفي هذا الكتاب أنكر طه حسين دور الدين واللغة في الوحدة السياسيَّة للدولة، وقال: “ومن المحقّق أن تطور الحياة الإنسانيَّة قد قضى منذ عهد بعيد بأن وحدة الدين ووحدة اللغة لا تصلحان أساسًا للوحدة السياسيَّة ولا قوامًا لتكوين الدول، إن السياسة شيء والدين شيء آخر”. ولم ينجو طه حسين من التكفير والتهديد بالقتل بعد إصدار كتابه “في الشعر الجاهلي” لاحقًا.

وفي السودان، حمل المُفكر الإسلامي والسياسي محمود محمد طه، مؤسس الحزب الجمهوري في العام 1945، أفكارًا إسلامية مُنفتحة ومُتحرّرة من أغلال الأصولية وأفكار الحاكمية. ففي كتابه “الرسالة الثانية من الإسلام”، تبنى التجديد في الدين وفق أصول التسامح والمحبة بين الناس بناءً على المجتمع المكي الأول الذي أسس له النبي محمد في مكة المكرّمة قبل قيام الدولة في المدينة. وقد قسّم طه الإسلام إلى قسمين: الإسلام المكّي، والإسلام المدني، واعتبر أنّ الإسلام الحقيقي هو الإسلام المكّي الذي يعتبر أصل الدين، والمليء بآيات الرحمة والتسامح، في حين أّنّ الإسلام المدني هو فرعٌ في الدين، نزل على الرسول ليحكُم من خلاله في الزمن الذي كان يعيش فيه، وانتهى هذا الإسلام بانتهاء عصر الرسول، وبطلت معه آيات الجهاد والميراث والسبي والتمييز بين الرجل والمرأة.

قام حاكم السودان جعفر النويري الذي أعلن تطبيق الشريعة الإسلامية في السودان، باعتقال محمود محمد طه، واتهمه بأنه مرتدّ عن الدين، وقام بإعدامه شنقًا في العام 1986، كما أمر بحرق كتبه ورسائله ومَنَعَ تداول أفكاره!

نعود إلى مصر، حيث أعلن المفكر الإسلامي المصري نصر حامد أبو زيد أنه “ليس هناك في القرآن ما يمكن أن يُؤخذ منه، أو يُستنبط منه مفهوم ما يُسمّى الدولة الدينية. وكان الصحابة دائمًا يسألون النبي في أي سلوكٍ وفي أي تصرفٍ يقوم به: “أهو الوحي أم الرأي والمشورة؟” وكان هذا السوال يتكرّر، بل حين أراد النبي أن يخرج في غزوة الخندق، وأن يخرج ليقاتلهم في مكان، سألوه: “يا رسول الله: أهو الوحي أم الرأي والمشورة؟” قال: “هو الرأي والمشورة”، فقالوا: “نبني خندقًا.” إذًا، كأن الجيل الأول من المسلمين أي “الصحابة” يدرك أن هناك مجالين، مجالاً للعقل وللخبرة وللرأي والمشورة، ومجالاً للوحي. ولا يجب الخلط بين المجالين إطلاقًا”. ويضيف أبو زيد: ” كان الرسول نبيًّا، وقائدًا لدولة، وهذه صفة لم تجتمع إلا له، وكان يقود الدولة طبقًا لفهمه لقوانين الواقع، ولقوانين الصراع”، ويضيف أيضاً: “مفهوم الدولة الدينية نشأ متأخرًا… الخلافة منصب سياسي، ولم يكن أبدًا منصبًا دينيًّا، ولم يكن خليفة يدعي أنه يحكم باسم الله… لم تكن هناك دولة دينيّة في الإسلام، كانت هناك دول سياسية، تحاول أن تجد لها مشروعية أيديولوجية زائفة، باسم الإسلام، وبتوظيف الرموز الدينية… كل الأنظمة السياسية العربية، وجدت لنفسها مشروعية في الدين… في مفهوم الدولة الدينية يحدث نوع من تحويل الإسلام من طاقة روحية إلى قوة عراك مادية، وهنا يفقد الإسلام جوهره الحقيقي؛ لأنه يتحول إلى أداة، يتحول إلى وقود، يحرق من أجل أن تمشي عربة السياسة كي تصل إلى سدة الحكم. وهذا هو الخطر الحقيقي على الإسلام؛ لأن الإسلام يعيش إذا عاشه المسلمون، وليس إذا استخدمه المسلمون. وفرق كبير جدًّا بين أن يعيش المسلمون الإسلام وبين أن يستخدموه لحاجات أخرى”.

ويتابع أبو زيد كلامه متحدثًا عن العلمانية، فيقول: “لم تُجَرَّب العلمانية، لم يحدث أن أقيم مجتمع علماني في العالم العربي، وأنا أعتقد وأصرّ، وأدفع الثمن لهذا الإصرار، أن العلمانيّة هي الشيء الوحيد الذي يحمي الدين. حتى المتطرفون الدينيون يمارسون تطرفهم بحرية في المجتمعات العلمانية، بمعنى أن قاعدته الحرية، طالما أنك لا تتدخل في حرية الآخرين. وعندما نقول مُجتمعًا مدنيًّا، فإنّ أساس المجتمع المدني العلمانية… هنالك أكثر من علمانية، لكن للأسف العلمانية اختصرت، اختصرها رجال الدين، ورجال الدين هم الذين يتكلمون في الفكر السياسي ويتكلمون في الفكر الاجتماعي والديني والطبي… العلمانية الحقيقية هي علمانية تحترم الدين وتحترم الرأي الآخر، وتحترم حرية الإنسان في ممارسة ما يشاء، إذا فُرضت العلمانية بقوة العسكر عليه العوض فينا؛ لأن العسكر “إكستريم”، عسكر معناها تنفيذ الأوامر!”.

وفي هذا الصدد يقول المفكر الإسلامي السوري الدكتور محمد شحرور: “يختلط تعريف العلمانية لدى كثير من الناس مع الإلحاد، لدرجة أن إطلاق صفة “علماني” على أحد ما، يسمه تلقائيًا بصفة ملحد، لكن هذا الخلط لم يأت من فراغ، فبالنسبة للغرب وبعد عهود من تحكم الكنيسة بحياة الناس واستفرادها بالسلطة ومحاباتها للملوك باسم الدين، جعل المجتمعات الغربية تتحسس من موضوع تدخل الدين بالمفهوم الكنسي في شؤون السياسة، ممّا دفع بمفكريها ومُنظريها إلى رفض إقحام الدين في الفلسفة السياسية تمامًا، لأن الدين بالنسبة لهم يقابل سلطة الإكراه”، ويضيف: “الإسلام لا يتعارض إطلاقًا مع مقوّمات المجتمع المدني ومع الحق الطبيعي للإنسان في الحرية، وعلى رأسها حرية المعتقد، وأنه لم يعط الحق لأحد بالحكم باسم الله على الأرض، فالدين لا يملك أداة الإكراه، وهذا ما نقرأه في قوله تعالى {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (البقرة 156)، مع ملاحظة أن الإيمان بالله يوافقه الكفر بالطاغوت، أي رفض كل أنواع الإكراه التي تمارس على الإنسان مهما كان نوعها… وكون الدين لا يملك أداة الإكراه، فهذا يعني حتمًا ألّا سلطة فيه، وأنه والسلطة خطّان متوازيان مهما امتدّا لا يلتقيان، فالسلطة من التسلط والقهر، والدولة لا تقوم لها قائمة من دون سلطة تحافظ على هيكليتها، بعكس الدين تمامًا، وسلطة الدولة يجب ألا تتدخل في حياة الإنسان الشخصية ولا العقائدية، وتنحصر مهمتها في السهر على ضبط المجتمع فقط، وليست مهمة الدولة إرسال الناس إلى الجنة وإبعادهم عن النار… إن أدلجة مفهوم الحاكمية الإلهية هو هدف يطرحه كل من يريد استعمال الإسلام للاستيلاء على السلطة، أما القرارات التي اتخذها النبي لتسيير أمور دولته فهي ليست حجةً على أحد، فقد اتخذها كقائد، ولها بعد تاريخي فقط، ولأن النص النظري للرسالة لا يمكنه احتواء كل التطبيقات العملية لها، وإنما هي مهمة الجهد الإنساني وفق تغير الظروف الزمانية والمكانية، فهذا ما قام به الصحابة أيضًا، واجتهاداتهم إنسانية وليست دستورًا إلهيًا”.

ويعتبر شحرور، كما باقي المفكرين الإسلاميين التجديديين، أنّ أزمة الإسلام الحقيقية بدأت في القرن الثاني والثالث الهجري عندما استقر الحكم للعباسيين وأصبحت الدولة قوية جداً، وتمّ كتابة السيرة النبوية، ويقول في هذا الصدد: “ما وصلنا الآن بدأت صياغته في العصر الأموي ودُوِّنَ في العصر العباسي، وهو تدوين وصناعة إنسانية بامتياز، فمفاهيم الكافر والمُرتد والزنديق وُضِعَت في ذاك الوقت لتُناسب الدولة العظمى حينها”.

ويختم شحرور بالقول: “إن الإسلام لا يتعارض مع العلمانية، والناس بالنسبة له سواسية، يتميزون بقدر عملهم الصالح {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (فصلت 33)، ووَضعُ بند “الإسلام دين الدولة” في أي دستور لا معنًى له، بل يحمل مغالطة للتحكم برقاب الناس، والأفضل من هذا، التركيز على دولة المؤسسات والقانون، بحيث يحكم فيها أمثال ميركل وترودو من خلال مؤسساتهم لا شخصهم”.

أما فراس السواح الباحث السوري في الميثولوجيا وتاريخ الأديان، فيقول في نفس هذا الموضوع: “لم تكن هنالك دولة خلافة إسلامية في أي مكان عبر التاريخ لكي يتم إحياؤها، منذ دولة المدِينة التي أنشأها الرسول الكريم وحتى قيام الدولة الإسلامية في إيران”. ويضيف: “محمد بن عبدالله كان أول علماني في التاريخ، لأنه أول من فصل الدين عن الدولة، عندما أصدر، عقب دخوله يثرب، الوثيقة المعروفة باسم “صحيفة المدينة”، وهي أول دستور عرفته الثقافة الإنسانية، وحدد فيه واجبات وحقوق الجماعات التي تشكل المجتمع، من مسلمين ومسيحيين ووثنيين وأتباع مذاهب أخرى. محمد لم يحكم المدينة كنبيّ أو رسول بل كأمير سياسي، لذا، عندما كان يشير إلى نفسه كان يستخدم اسمه مُجرَّدًا من لقب رسول الله، على الرغم من أنه تابع النشاط الدعويّ إلى دين الله، من خلال ما يدعى في السيرة بـ “الغزوات”، التي قاد بعضها بنفسه، أو أوكل بعض الصحابة للقيام بها. وعندما ارتقى الرسول إلى جوار ربه لم يخلفه أبو بكر الصديق كمرجع ديني بل كأمير سياسي، وكذلك الحال مع بقية الخلفاء الراشدين وفي الخلافتين الأموية والعباسية”. 

ويقول الشيخ والمفكر اللبناني السيد هاني فحص في مقابلة أجرتها معه مجلة “تواصل مدني” في العام 2011: “نريد دولة مواطنة تتعامل مع الناس كأفراد وليس كجماعات، بمعنى أنني مثلاً، أنا كرجل دين، مواطنٌ لدي حق سياسي أمارسه، ولكن لا يمكنني كمواطن أن أمارس حقي السياسي باسم طائفتي”. ويضيف: “أنا رجل دين أريد العلمانية لأنني لا أريد دولة تنتج الدين لأنها ستفسد فيه، ولا أريد ديناً ينتج لي دولة لأنه سيفسد فيها، أريد الإثنين، الدين كاختيار ثقافي واجتماعي حيث يختار الإنسان طائفته، وهنالك اختيار آخر سياسي إداري، وهذين الخيارين هما حقلين معرفيين وعمليين مختلفين”.

وقد اعتبر السيد فحص في إحدى محاضراته أن “الاستبداد العلماني يمكن أن يكون أقل فتكًا من الاستبداد الديني بالدين وأهله”، و”إننا لسنا ملزمين بوضع الله خيارًا مقابل الإنسان”، معتبرًا “الدولة المدنية الديمقراطية هي المناخ الملائم للمحبة والعدل”. وأضاف: “الدولة الدينية تنتج الدين قطعًا” ولكن “على أساس أنها دولة وليس على أساس أنها دين”. وشددّ على أهمية الحرية التي هي ضمان “عدم العدوان والتشويه اللذان يأتيان من الجماعات المتعصبة”، وأن الديمقراطية “تحمي الناس من إنتاج الدين على حسابهم”.

أما السيد رحيم أبو رغيف، رجل الدين الشيعي العراقي، فقال: “الحريات في الإسلام أوسع مما نراه في العراق اليوم، والعلمانية هي دعوة لفصل سلطة رجال الدين عن سلطة الدولة”، وأضاف “رجال الدين عجزوا على مدى 1400 عام عن تقديم شيء ملموس للمجتمع، وكل الأحكام الدينية التي تقود للإقصاء تحتاج إلى إعادة نظر وتجديد قراءة النصوص الدينية التاريخية”، وأشار إلى أن “الهوية الوطنية في العراق تُعاني أزمة عميقة، حيث تَسبّب الموروث الديني والإسلامويون في تفاقمها”، وأنّ “الوطنية مذكورة في أدبيات الرسول وأهل البيت، وأن تحوّل الدين إلى هوية خلق إقصائية أثرت سلبًا على المجتمع”. ويعتبر أبو رغيف أنّ: “النظام السياسي في الدولة مفترض أن يقوم على أساس العلمانية”.

اكتفينا في هذا البحث بعرض بعض الأفكار والآراء التي قدّمها عدد من المفكرين التنويريين في العالم العربي، مع العلم أنّ لائحة المفكرين المُجدِّدين في الدينين المسيحي والإسلامي كبُرت، بحيث أصبحت الحاجة، أكثر من أي وقت سابق، إلى دوائر تواصل وحوار تضم المفكرين التنويريين الجدد، من المشرق العربي إلى مغربه، للعمل على بناء خريطة طريق جامعة للفكر التجديدي والتنويري العربي.

***

المراجع:

– كتاب “العلمانية الشاملة”- غريغوار حداد- دار مختارات- طبعة العام 2005.

– كتاب “الإسلام وأصول الحكم”- علي عبد الرازق– مطبعة مصر شركة مساهمة مصرية

طبعة العام 1993.

– كتاب “العلمانية بين التحليل والتحريم”- باسل عبدالله- الدار العربية للعلوم ناشرون- طبعة العام 2015.

– تقرير خاص- قناة الحرة- مقابلة مع د. محمد شحرور

– برنامج “أجراس المشرق” – قناة الميادين- مقابلة مع المطران جورج خضر.

– برنامج “أجراس المشرق” – قناة الميادين- مقابلة مع الأب جورج مسوح.

– برنامج “كلام الناس”- قناة LBCI – مقابلة مع المطران غريغوار حداد.

– فيديو من إنتاج “تيار المجتمع المدني” ومقابلة لمجلة “تواصل مدني” مع السيد هاني فحص- 2011.

– صحيفة النهار- مقالة “هل يخلص غير المسيحي” للمطران جورج خضر – 22/6/2002.

– صحيفة الأخبار – بولس الخوري: العلمانية تصون التنوّع الإنساني– 17/8/2011.

– صحيفة الجريدة – آراء جريئة لأبو رغيف في “المقاربة”– 31/12/2024.

– صحيفة المستقبل- العلمنة والتباساتها- د. جيروم شاهين- 7/12/2010.

– وبسايت إسلام ويب- الإنقلاب على الغرب العلماني- د. محمد عمارة- 15/1/2017.

– وبسايت ديمقراط سودان- العلمانية والإسلام – د. محمد شحرور- 3/9/2020.

– مجموعات الهنداوي- هكذا تكلم نصر أبو زيد (الجزء الثاني): المثقف بين السلطة وخطاب التحريم– ندوة جمعية الثقافة السودانية.

– السيد هاني فحص: الدولة المدنية الديمقراطية هي المناخ الملائم للمحبة والعدل– سيد مرحوم- منتدى منار للحوار- 11/7/2004.

– رويترز- طه حسين: “الإسلام دين الدولة” شرّع اضطهاد الرأي في مصر- 17/3/2013.

– وبسايت حرف- الباحث عن دين الإنسان.. فراس السواح: النبى محمد أول علمانى فى التاريخ نضال ممدوح– 9/2/2025