وبالرغم مِن أنّ عملي الجديد، بسبب تنوع
المهام التي كُلفتُ بها، تطلب مجهوداً لا بأس به، غير أنّ راتبي كان مُرضياً إلى
حد ما وكفيلاً بتعويضَ تعبي.
شملَت وظيفتي عدة مهام حسب الطلب، منها قيادة
سيارة الموتى وتنظيم صالون التعازي والمُساعدة في حمل التابوت أثناء الجنازة أو السير
بإكليل خلف التشييع ... وُصولاً إلى حفر القبر ودفن الميت.
أهم شيء، أنني ما عدت أشعرُ بذلك الاضطراب
الذي لاحقني مع أول أيام الوظيفة، فأنا اليوم مُعتادٌ التعامل مع جثثِ زبائننا بدون
أدنى رهبة أو خوف.
بالمقابل، لاحظت على نفسي بعد توظيفي أنني
أصبحت أميل للعزلة والهدوء والابتعاد عن الناس، وزادت ساعات الشرود والتأمل في
حياتي والإهتمام بأمور ما كانت يوماً تعني لي شيئاً ... لا أعرف السبب، لكن الأرجح
أنّ هذه المهنة عكست عليّ في مكان ما من حياتي طابعها الخاص.
***
منذ فترة قصيرة، زادت الطلبيات على مكتبنا،
وتحت ضغط العمل، طلب مني رب عملي أن أبحث عمن يُساعدني في وظيفتي، ففعلت.
وقع اختياري على صديقي حسين العاطل عن العمل. لبّى حسين على الفور دعوتي والتحق بمكتبنا،
وساهم مُساعدي الجديد بتخفيف ضغط العمل عني ولكن لفترة قصيرة، لأنّ هذا الأخير أعلن
لي فجأة في اليوم السابع من مباشرته العمل أنه لم يتأقلم مع "مضمون الوظيفة"،
واعتذر مُبرراً: "آسف .. ما من أمل ... لا مكان لي هنا! ... عليّ أن أذهب بعيداً"،
ومضى.
***
عدتُ أقود سيارة الموتى وحدي، وأوزع الأكاليل
على زوايا صالون التعازي وحدي، وأواكب التشييع وحدي، وأحفر القبور وأدفن الموتى
وحدي.
في أحد الأيام، وأنا أهُم بدفن إحدى الجثث في
القبر، بان وجه صاحبها أمامي من داخل الكفن. كان وجه حسين صديقي.
مات حسين، وحفرتُ قبره بيدي. جرت الأمور
بسرعة إلى درجة أنني لم أبكه، بل لم أتأثر... كل ما فعلت أنني أنتهيت من دفنه ثمّ انصرفت.
***
مرّت الأيام وأنا أواكب الجنازات. وفي أحد
أيام عطلتي تلقيت اتصالاً من رب عملي يطلب مني الالتحاق بالمكتب في أسرع وقت ممكن،
بحجة أنّ هناك جنازة كبيرة يحتاجني إليها.
استقبلني رب عملي بعد التحاقي بالوظيفة قائلا:
"إنه يومنا .. كـُلـِّـفنا بجنازة كبيرة"، قالها بفخر لا يخلو من
الارتباك، ثمّ استطرد قائلاً: "طلب مني أحد كبار قادة البلاد بأن يتولى مكتبنا
مراسم دفن أهم الموتى" ... أضاف: "أخيراً سينال مكتبنا الشهرة التي
يستحق!".
سألته: "من مات؟؟"
أجاب: "يقولون أنه الوطن ..
سألته باستغراب: "الوطن؟؟ .. لم
أفهم!؟".
أجاب مجدداً: "وما همك أن تفهم ! ...
المهم أنّها جنازة العمر... هيّا .. هيّا إلى العمل!".
جرت مراسم الجنازة ومشى زعماء الوطن خلف التابوت
حسب الأصول، ومشيتُ أنا خلفهم حاملاً الإكليل الأكبر.
كنت مُتشوقاً لرؤية وجه المتوفى هذه المرة،
فأنا لم أدفن يوماً وطناً.
... حفرت القبر وانتظرت استلام الجثة لدفنها،
وهكذا حصل، ففور استلامي إياها سارعت إلى رفع الكفن عن وجهها والنظر إليه.
بان وجه الوطن أمامي مائلا إلى الزُرقة كمن
تلقى سلسلة من الكدمات، وفي دائرة الوجه ظهرَت عشرات آلاف الوجوه البشرية الصغيرة
وكأنها حشرات تملأ دائرة الوجه بكامله.
أصابني المشهد بالذعر، فأفلَتُّ الجثة من يدي
وهرولت بعيداً عن القبر إلى حيث احتشد القادة أصحاب الفقيد يستقبلون الحشود
المُعزية.
كان الجميع يتبادل الأحاديث.
أما أنا فكنت أردد بشبه ضياع: "لن
أدفنه.. لن أدفنه... إنّه يضم وجوه آلاف الناس... لا يمكنني أن أدفنه ؟!".
فجأة ظهر رب عملي من خلفي قائلاً: "أنت
هنا؟؟ .. أردت تهنئتك فلم أجدك. مبروك .. مبروك ... نجحنا في مهمتنا... أصبحنا
الآن في طليعة مكاتب دفن الموتى في هذا الوطن" ... وأتبعَ كلماته بابتسامة
كبيرة مُهنئة.
قطعتُ عليه ابتسامته بالقول: "لكن الوطن
مات!"
أجاب: " وإن مات... ما همنا؟".
قلت: "وجهه يحوي وجوه آلاف الناس"
أجابني: "ما همُّنا!"
أضفت: "إحتضر الآلاف باحتضار الوطن.. هل
تفهمني؟؟"
أجاب من جديد: "ما همّنا ... هيّا
نحتفل".
***
مرّت الايام، وتابعتُ مهام وظيفتي بشكل طبيعي
إلى أن جاء يوم هو الأشد غرابة بين أيامي، كـُلـِّـفتُ فيه مراسم دفن أحد الموتى
الجدد. استلمتُ الجثة كالعادة أمام القبر، وأثناء مُواراته الثرى ظهرَ أمامي وجه صاحب
الجثة. كان الوجه وجهي.
مَرّت الأمور بسرعة،
... لم أبالِ أو أكترث بما شاهدت.
استكملت عملي، وألقيتُ جثتي في قبري بيدي.
ثمّ تركتُ هويتي فوق قبري وانصرفت
... بعيداً عن المقبرة
... بعيداً عن أصدقائي
... بعيداً عن وطني
... بعيداً عن عالم الأشباح التافه الذي أعيش فيه.
***
باسل عبدالله
22/1/2014